جعل المشرع المصري للتوحيد القانوني للجرائم المتعددة أثراً قانونياً بالنسبة للعقوبة الأصلية واجبة التطبيق ، وقصر التوحيد القانوني على عنصر التجريم دون العقوبة ، فقام بتوحيد الجرائم المتعددة الناجمة عن سلوك الفاعل ، لكنه لم يُوَحِّد هذه العقوبات في عقوبة واحدة فتظل كل جريمة محتفظة بكيانها القانوني ولها عقوبتها المستقلة. فالحكم بالعقوبة المقررة للجريمة الأشد لا يفقد الجريمة أو الجرائم الأخف فاعليتها على إحداث أثرها القانوني في العقاب الذي يعد قد تحقق بتوقيع العقوبة المقررة للجريمة الأشد [1]. من هنا ، يجب القول بأن الجريمة أو الجرائم الأخف يوقف أثرها العقابي فحسب في حالة الحكم بالعقوبة المقررة للجريمة الأشد ، ونتيجة لذلك فإن الجرائم الأخف يمكن الإعتداد بها في تطبيق أحكام العود ورد الاعتبار ، ويجب توقيع عقوبتها إذا طرأ من الأسباب ما يحول دون الحكم بعقوبة الجريمة الأشد كأن يصدر عفو عنها أو يلحقها عذر من الأعذار المعفية من العقاب.
أولاً : أثر الحكم بعقوبة الجريمة الأشد في أحكام العود:
قد يُحْكَم على شخص بعقوبة ويصير الحكم باتاً وينفذ عليه كلياً أو جزئياً أو لا ينفذ إطلاقاً ، فلا يُرْدِعُه العقاب أو الإنذار الذي تضمنه هذا الحكم بعقابه ، ثم يرتكب بعد ذلك عدة جرائم ـ دون أن يحكم عليه بحكم بات في إحداها ـ فإنه يُعَدُّ عائداً وتنطبق عليه مواد العود وتعدد الجرائم. ويُجْمِع الفقه والقضاء على إعمال قواعد العود أولاً ثم أحكام التعدد ؛ لأن قواعد التعدد تُغَيِّر في حساب العقوبات التي تنفذ على المتهم ولا يمكن معرفة هذا التغيير إلا بعد معرفة العقوبة المقررة عن كل جريمة بمراعاة كل ما يؤثر في قدرها. ولا خلاف في الفقه على أن الجريمة ذات العقوبة الأشد المحكوم بها في حالة التوحيد القانوني للجرائم المتعددة ـ المنصوص عليها بالمادة (32) عقوبات ـ تعد سابقة في العود نظراً لانصراف حكم الإدانة إليها. لكن دب الخلاف في شأن الجريمة أو الجرائم الأخف الداخلة في تكوين حالة التوحيد القانوني للجرائم [2].
فذهب جانب من الفقه إلى أن الجريمة الأخف إذا كانت ترتب أثراً معيناً في أحكام العود فإن هذا الأثر يظل باقياً ولو لم يحكم بالعقوبة المقررة لها قانوناً اكتفاء بتوقيع العقوبة المقررة للجريمة الأشد التي لا ترتب أثراً في العود، سواء في ذلك حالتي التوحيد القانوني للجرائم. فيعد الشخص في حالة عود إذا عاد فارتكب في خلال المدة المحددة قانوناً جريمة جديدة مماثلة للجريمة الأخف ـ لا للأشد ـ وكانت العقوبة السابق الحكم بها في الجرائم المرتبطة هي الحبس لمدة أقل من سنة أو الغرامة (م49/3 من قانون العقوبات) [3].
ويذهب رأي آخر إلى أن الجاني إذا ارتكب فعلاً واحداً حقق أكثر من جريمة وهي الحالة المنصوص عليها بالفقرة الأولى من المادة 32 عقوبات ، إنما قصد ارتكاب الجريمة الأشد دون غيرها من الجرائم الأخف فلا يعد الجاني مرتكبا للجريمة الأخف ولا تطبق عليه المادة القانونية الخاصة بها ولا تعد بالتالي سابقة في العود [4]. في حين ذهب رأي ثالث إلى أن الفقرة الثانية من المادة 32 عقوبات ، جرى نصها على وجوب اعتبار الجرائم المرتبطة كلها جريمة واحدة والحكم بالعقوبة المقررة لأشد تلك الجرائم ، ويترتب على ذلك عدم الاعتداد بالجريمة الأخف كسابقة في العود ؛ لأن حكم الإدانة قاصر فقط على الجريمة الأشد [5] .
الاعتداد بالجرائم الأخف في تطبيق أحكام العود ورد الإعتبار:
إن المشرع المصري جانبه التوفيق حين نص على وجوب اعتبار الجرائم كلها جريمة واحدة والحكم فقط بالعقوبة المقررة للجريمة الأشد ؛ ذلك لأن القول باعتبار الجرائم كلها جريمة واحدة يعيبه عدم الدقة ؛ لأن كل جريمة تحتفظ بذاتيتها وكيانها ، فثمة جرائم متعددة. وإغفال الحكم الإشارة إلى العقوبات المقررة للجرائم الأخف ، قد يحمل إلى الظن أن الجاني لم ينزل به جزاء عنها. ولما كانت لكل جريمة عقوبتها فإن في وسع المشرع أن يحقق غرضه في التخفيف على الجاني بالاكتفاء بتوقيع عقوبة أشد الجرائم التي ارتكبها ، بإلزام القاضي بالحكم بالعقوبة المقررة لكل جريمة ثم ينص على تنفيذ العقوبة المقررة للجريمة الأشد [6]. وبالتالي ، يقتصر أثر التوحيد القانوني للجرائم المتعددة على العقوبة واجبة التطبيق ولا يمتد هذا الأثر إلى الأحكام العامة للجريمة ، فتحتفظ كل جريمة من الجرائم المرتبطة بذاتيتها القانونية وفاعلية كل جريمة على إحداث أثرها القانوني في العقاب.
وعلى ذلك، يعد الحكم بالعقوبة المقررة للحريمة الأشد بمثابة عقوبة على كل الجرائم المرتبطة ، ويكون لكل جريمة نصيب من هذه العقوبة [7]. وبالتالي يعتد بالجريمة أو الجرائم الأخف بها في تطبيق أحكـام العود ، ورد الاعتبار ، وغير ذلك من الآثار المترتبة على الحكم بالعقوبة المقررة للجريمة الأشد، إذ تحكمها عنذئذ القواعد الخاصة بتعدد الجرائم ؛ ذلك لأن تعدد الجرائم يستقل عن المشكلة الخاصة باختيار العقوبة واجبة التطبيق[8]. فوحدة الجريمة أو تعددها يتعلق بالنظرية العامة للجريمة ، بينما وحدة العقوبة أو تعددها يتعلق بنظرية العقوبة. ومن هنا ، فإن تطبيق عقوبة الجريمة الأشد في أحوال التوحيد القانوني للجرائم لا ينفي أن هناك تعدداً في الجرائم المستوجبة كل منها العقوبة المقررة قانوناً.
ثانياً: العفو عن الجريمة الأشد أو إعفاءها من العقاب وأثره على الجرائم الأخف:
تلجأ الدولة إلى الإعفاء الشامل للنزول عن حقها في معاقبة الجاني ، وتلجأ إلى العفو عن العقوبة حين ترى النزول عن حقها في تنفيذ العقوبة فقط. ويترتب على العفو الشامل محو الصفة الإجرامية عن الفعل الجنائي المرتكب ، بينما يعد العفو عن العقوبة وسيلة الدولة التي تختارها لإصلاح بعض الأخطاء القضائية التي لا سبيل لإصلاحها بالطعن في الحكم ، أو لمكافأة من يثبت حسن سلوكه بعد تنفيذ جزء من العقوبة ، وقد تأخذ به الدولة كمظهر من مظاهر الصفح والتسامح إحتفالاً ببعض الأعياد القومية.
أما الأعذار المعفية من العقاب ويطلق عليها أحياناً "موانع العقاب" فهي تمثل شروطاً معينة يقررها القانون في جرائم خاصة لإعفاء الجاني من العقاب إذا توافرت شروطه الواردة في النص التشريعي على الواقعة المؤثمة إنطباقاً تاماً مع التسليم بأن فعله يعد جريمة وبأن مسئوليته عن هذه الجريمة قائمة لا شبهة فيها. وتختلف الحكمة التي من أجلها تقرر العذر المعفي من العقاب من جريمة إلى أخرى ، فمثلاً التبليغ عن جريمة الرشوة ، يؤدي إلى إعفاء الراشي أو الوسيط من العقـوبة إذا أخبر أيهما السـلطات بالجـريمة أو إعـترف بهـا ( المادة 107 مكرراً عقوبات).
وقد يرتكب الجاني عدة جرائم يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً لا يقبل التجزئة أو تتحقق من خلال ارتكاب فعل واحد يترتب عليه وجود أكثر من جريمة ويقتضي الأمر الحكم بالعقوبة المقررة للجريمة الأشد ، ثم يصدر عفو عن الجريمة الأشد أو يلحقها عذر من الأعذار المعفية من العقاب. ويثار التساؤل عما إذا كان هذا العفو أو الإعفاء يقتصر أثره على الجريمة الأشد أم يمتد إلى الجريمة الأخف فيعفى الجاني من العقاب المقرر لها .
يُجْمِع الفقه على أنه إذا كان العفو أو الإعفاء قد لحق بالجريمة ذات العقوبة الأخف ، فإن أثره يكون قاصراً عليها ؛ لأن المشرع يعتد ـ في مجـال تطبيق نص المـادة (32) عقوبات ـ بالجريمة ذات العقوبة الأشد. أما إذا كان العفو أو الإعفاء قد لحق بالجريمة ذات العقوبة الأشد، فإن الفقه اختلف حول مدى امتداد ذلك إلى الجريمة أو الجرائم الأخف. فيذهب البعض إلى أن العفو أو الإعفاء الذي لحق بالجريمة ذات العقوبة الأشد يمتد إلى الجريمة أو الجرائم الأخف ، إذ يكون من غير الجائز مؤاخذة الجاني عن الجريمة الأخف التي تنصهر في الجريمة الأشد التي شملها الإعفاء ؛ لأن الجاني في الحالة المنصوص عليها بالفقرة الأولى من المادة (32) يرتكب جريمة واحدة هي تلك التي تمخض عنها الوصف الأشد ، أما في الحالة المنصوص عليها بالفقرة الثانية من المادة (32) عقوبات ، فإن القانون يجعل الجاني مسئولاً عن جريمة واحدة هي الجريمة ذات العقوبة الأشد [9] .
ويتجه رأي آخر إلى القول بأن لكل جريمة من الجرائم الداخلة في تكوين التعدد الحقيقي للجرائم المرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة ذاتيتها ولا تفقد كيـانها بسبب الارتباط ، وبالتالي فإن كل واحدة منها تنتج آثاراً جنائية يتعين الاعتداد بها بحيث إذا تقرر إعفاء الجاني من العقاب المقرر للجريمة الأشد ، فإن هذا العفو لا ينسحب إلى ما هو مقرر من عقاب عن الجريمة الأخف ، والقول بغير ذلك يعني أن الجاني الذي ارتكب جريمة واحدة يعد أفضل حالاً من ذلك الذي يرتكب جريمتين [10]. وكذلك الحال بالنسبة للتعدد الظاهري للجرائم ، فإذا صدر عفو أو توافر أحد الأعذار المعفية من العقاب بالنسبة للوصف الأشد ، فإن ذلك لا يؤثر في قيام مسئولية الجاني عن الوصف الأخف [11] .
أما محكمة النقض المصرية ، فلم تتخذ منهجاً محدداً في معالجة هذه المسألة ، فهي تارة تقول بأن الإعفاء من العقاب عن الجـريمة الأشد ، يترتب عليه عدم توقيع عقوبة الجريمة ذات العقوبة الأخف. وفي تبرير ذلك قالت ، بأن امتناع العقاب عن الجريمة الأشد لقيام موجب الإعفـاء منها ، يقتضي عدم توقيع العقوبة عن الجريمة الأخف المرتبطة بها ؛ لأن موانع العقاب تفترض ارتكاب الجريمة وقيام مسئولية مرتكبها عنها ، لكنه يحول دون أن ترتب المسئولية نتيجتها الطبيعية وهي توقيع العقوبة. فإذا توافر الإعفاء فإن القاضي يطبق الأثر الموضوعي المنصوص عليه بالمادة (32) عقوبات ، وهو توقـيع العقـوبة المقـررة للجـريمة الأشـد ـ الأصلية والتكميلية ـ ثم بعد ذلك يترتب أثر الإعفاء من العقاب وهو القضاء بالبراءة [12].
وتارة أخرى تقصر أثر الإعفاء من العقاب الذي يلحق الجريمة الأشد على هذه الجريمة دون أن يمتد أثره إلى الجرائم الأخف المرتبطة بها ، فقضت في حكم من أحدث أحكامها طبقت فيه القانون تطبيقاً صحيحاً بأنه : " إن مناط الارتباط في حكم المادة (32) من قانون العقوبات رهن بكون الجرائم المرتبطة قائمة لم يجر على إحداها حكم من الأحكام المعفية من المسئولية أو العقاب ؛ لأن تماسك الجريمة المرتبطة وإنضمامها بقوة الإرتباط القانوني إلى الجريمة المقرر لها أشد العقاب لا يفقدها كيانها ولا يسلب المحكمة حقها في التصدي لباقي الجرائم المرتبطة وأن تنزل العقوبة المقررة لها متى توافر أركانها وثبوتها قبل المتهم ، وكان الحكم المطعون فيه قد خلص إلى إدانة المطعون ضده الثاني بجريمتي الرشوة والإشتراك في الإختلاس وأعفاه من العقاب عن الجريمة الأولى إعمالاً لنص المادة 107 مكرراً من قانون العقوبات ولم يوقع عليه عقوبة الجريمة الثانية الأخف بدعوى ارتباطها بالجريمة الأولى ذات العقوبة الأشد ارتباطاً لا يقبل التجزئة مع أن قضائه بإعفاء المطعون ضده المذكور من العقاب عن جريمة الرشوة يمتنع معه عليه تطبيق الفقرة الثانية من المادة 32 من قانون العقوبات ويستتبع حتماً توقيع عقوبة جريمة الإشتراك في الإختلاس التي أثبت الحكم وقوعها منه ودلل عليها..." [13].
وجدير بالذكر أن هذا الحكم ليس فريداً ، فقد سبق لمحكمة النقض أن أخذت من قبل بالمبدأ الذي يقصر أثر الإعفاء من العقاب على الجريمة التي لحقها الأعفاء دون أن يمتد إلى غيرها من الجرائم
المرتبطة بها ، فقضت بأنه إذا كان المشرع يعفي من العقاب عن أحد الأوصاف فإن هذا لا يمنع من العقاب عن الوصف الآخر ، فمن تخفي الأدلة عن الجريمة المسندة إلى زوجها وهي المخدرات فإن فعلها يتضمن فضلاً عن جـريمة إخفاء الدليل المعفـاه من العقاب ، جـريمة إحراز المخدرات وهذه الأخيرة لا إعفاء فيها في هذه الحالة [14]. ويبنى على ذلك أنه ، إذا أخفت امرأة عدداً من الجناة الفارين من وجه العدالة وكان زوجها من بين هؤلاء الجناة ، فإنها بسلوك واحد تكون قد ارتكبت الجنايات والجنح المنصوص عليها بالمادة (144) عقوبات ، ففي هذه الحالة إذا تقرر إعفاء الزوجة من عقوبة الجريمة الأشد بالنسبة لإخفاء زوجها عملاً بالفقرة الأخيرة من هذه المادة ، فإن هذا الإعفاء لا يسري على غير زوجها من المجرمين الذين قامت بإخفائهم ، فتعاقب بعقوبة الجريمة التالية في الشدة لعقوبة الجريمة التي أعفيت منها.
ثم عادت مرة أخرى لتأخذ ـ دون سند من القانون ـ بإمتداد أثر الإعفاء من العقاب الذي لحق الجريمة الأشد ليشمل الجرائم الأخف المـرتبطة بها ، فقضت بأنه :" من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الإعفاء من العقاب ليس إباحة للفعل أو محواً للمسئولية الجنائية ، بل هو مقرر لمصلحة الجاني التي تحققت في فعله وفي شخصه عناصر المسئولية الجنائية واستحقاق العقاب ، كل ما للعذر المعفي من العقاب من أثر هو حط العقوبة عن الجاني بعد إستقرار إدانته دون أن يمس ذلك قيام الجريمة في ذاتها ، وإذ كان مناط الارتباط في حكم الفقـرة الثانية من المـادة (32) من قانون العقوبات رهن بكون الجرائم المرتبطة قائمة لم يقض في إحداها بالبراءة ، وإذ كانت المحكمة قد إنتهت إلى توافر الارتباط الذي لا يقبل التجزئة بين جريمتي الرشوة ودمغ المشغولات بطريقة غير مشروعة فقد وجب اعتبارهما جريمة واحدة والحكم بالعقوبة المقررة لأشدهما وهي جريمة الرشوة ، فإذا أسفر تمحيص المحكمة لدفاع المتهم عن تحقق موجب الإعفاء في جريمة الرشوة امتنع عليها توقيع عقوبة الجريمة الأخف وهي جريمة دمغ المشغولات بطريقة غير مشروعة " [15].
أولاً : أثر الحكم بعقوبة الجريمة الأشد في أحكام العود:
قد يُحْكَم على شخص بعقوبة ويصير الحكم باتاً وينفذ عليه كلياً أو جزئياً أو لا ينفذ إطلاقاً ، فلا يُرْدِعُه العقاب أو الإنذار الذي تضمنه هذا الحكم بعقابه ، ثم يرتكب بعد ذلك عدة جرائم ـ دون أن يحكم عليه بحكم بات في إحداها ـ فإنه يُعَدُّ عائداً وتنطبق عليه مواد العود وتعدد الجرائم. ويُجْمِع الفقه والقضاء على إعمال قواعد العود أولاً ثم أحكام التعدد ؛ لأن قواعد التعدد تُغَيِّر في حساب العقوبات التي تنفذ على المتهم ولا يمكن معرفة هذا التغيير إلا بعد معرفة العقوبة المقررة عن كل جريمة بمراعاة كل ما يؤثر في قدرها. ولا خلاف في الفقه على أن الجريمة ذات العقوبة الأشد المحكوم بها في حالة التوحيد القانوني للجرائم المتعددة ـ المنصوص عليها بالمادة (32) عقوبات ـ تعد سابقة في العود نظراً لانصراف حكم الإدانة إليها. لكن دب الخلاف في شأن الجريمة أو الجرائم الأخف الداخلة في تكوين حالة التوحيد القانوني للجرائم [2].
فذهب جانب من الفقه إلى أن الجريمة الأخف إذا كانت ترتب أثراً معيناً في أحكام العود فإن هذا الأثر يظل باقياً ولو لم يحكم بالعقوبة المقررة لها قانوناً اكتفاء بتوقيع العقوبة المقررة للجريمة الأشد التي لا ترتب أثراً في العود، سواء في ذلك حالتي التوحيد القانوني للجرائم. فيعد الشخص في حالة عود إذا عاد فارتكب في خلال المدة المحددة قانوناً جريمة جديدة مماثلة للجريمة الأخف ـ لا للأشد ـ وكانت العقوبة السابق الحكم بها في الجرائم المرتبطة هي الحبس لمدة أقل من سنة أو الغرامة (م49/3 من قانون العقوبات) [3].
ويذهب رأي آخر إلى أن الجاني إذا ارتكب فعلاً واحداً حقق أكثر من جريمة وهي الحالة المنصوص عليها بالفقرة الأولى من المادة 32 عقوبات ، إنما قصد ارتكاب الجريمة الأشد دون غيرها من الجرائم الأخف فلا يعد الجاني مرتكبا للجريمة الأخف ولا تطبق عليه المادة القانونية الخاصة بها ولا تعد بالتالي سابقة في العود [4]. في حين ذهب رأي ثالث إلى أن الفقرة الثانية من المادة 32 عقوبات ، جرى نصها على وجوب اعتبار الجرائم المرتبطة كلها جريمة واحدة والحكم بالعقوبة المقررة لأشد تلك الجرائم ، ويترتب على ذلك عدم الاعتداد بالجريمة الأخف كسابقة في العود ؛ لأن حكم الإدانة قاصر فقط على الجريمة الأشد [5] .
الاعتداد بالجرائم الأخف في تطبيق أحكام العود ورد الإعتبار:
إن المشرع المصري جانبه التوفيق حين نص على وجوب اعتبار الجرائم كلها جريمة واحدة والحكم فقط بالعقوبة المقررة للجريمة الأشد ؛ ذلك لأن القول باعتبار الجرائم كلها جريمة واحدة يعيبه عدم الدقة ؛ لأن كل جريمة تحتفظ بذاتيتها وكيانها ، فثمة جرائم متعددة. وإغفال الحكم الإشارة إلى العقوبات المقررة للجرائم الأخف ، قد يحمل إلى الظن أن الجاني لم ينزل به جزاء عنها. ولما كانت لكل جريمة عقوبتها فإن في وسع المشرع أن يحقق غرضه في التخفيف على الجاني بالاكتفاء بتوقيع عقوبة أشد الجرائم التي ارتكبها ، بإلزام القاضي بالحكم بالعقوبة المقررة لكل جريمة ثم ينص على تنفيذ العقوبة المقررة للجريمة الأشد [6]. وبالتالي ، يقتصر أثر التوحيد القانوني للجرائم المتعددة على العقوبة واجبة التطبيق ولا يمتد هذا الأثر إلى الأحكام العامة للجريمة ، فتحتفظ كل جريمة من الجرائم المرتبطة بذاتيتها القانونية وفاعلية كل جريمة على إحداث أثرها القانوني في العقاب.
وعلى ذلك، يعد الحكم بالعقوبة المقررة للحريمة الأشد بمثابة عقوبة على كل الجرائم المرتبطة ، ويكون لكل جريمة نصيب من هذه العقوبة [7]. وبالتالي يعتد بالجريمة أو الجرائم الأخف بها في تطبيق أحكـام العود ، ورد الاعتبار ، وغير ذلك من الآثار المترتبة على الحكم بالعقوبة المقررة للجريمة الأشد، إذ تحكمها عنذئذ القواعد الخاصة بتعدد الجرائم ؛ ذلك لأن تعدد الجرائم يستقل عن المشكلة الخاصة باختيار العقوبة واجبة التطبيق[8]. فوحدة الجريمة أو تعددها يتعلق بالنظرية العامة للجريمة ، بينما وحدة العقوبة أو تعددها يتعلق بنظرية العقوبة. ومن هنا ، فإن تطبيق عقوبة الجريمة الأشد في أحوال التوحيد القانوني للجرائم لا ينفي أن هناك تعدداً في الجرائم المستوجبة كل منها العقوبة المقررة قانوناً.
ثانياً: العفو عن الجريمة الأشد أو إعفاءها من العقاب وأثره على الجرائم الأخف:
تلجأ الدولة إلى الإعفاء الشامل للنزول عن حقها في معاقبة الجاني ، وتلجأ إلى العفو عن العقوبة حين ترى النزول عن حقها في تنفيذ العقوبة فقط. ويترتب على العفو الشامل محو الصفة الإجرامية عن الفعل الجنائي المرتكب ، بينما يعد العفو عن العقوبة وسيلة الدولة التي تختارها لإصلاح بعض الأخطاء القضائية التي لا سبيل لإصلاحها بالطعن في الحكم ، أو لمكافأة من يثبت حسن سلوكه بعد تنفيذ جزء من العقوبة ، وقد تأخذ به الدولة كمظهر من مظاهر الصفح والتسامح إحتفالاً ببعض الأعياد القومية.
أما الأعذار المعفية من العقاب ويطلق عليها أحياناً "موانع العقاب" فهي تمثل شروطاً معينة يقررها القانون في جرائم خاصة لإعفاء الجاني من العقاب إذا توافرت شروطه الواردة في النص التشريعي على الواقعة المؤثمة إنطباقاً تاماً مع التسليم بأن فعله يعد جريمة وبأن مسئوليته عن هذه الجريمة قائمة لا شبهة فيها. وتختلف الحكمة التي من أجلها تقرر العذر المعفي من العقاب من جريمة إلى أخرى ، فمثلاً التبليغ عن جريمة الرشوة ، يؤدي إلى إعفاء الراشي أو الوسيط من العقـوبة إذا أخبر أيهما السـلطات بالجـريمة أو إعـترف بهـا ( المادة 107 مكرراً عقوبات).
وقد يرتكب الجاني عدة جرائم يرتبط بعضها ببعض ارتباطاً لا يقبل التجزئة أو تتحقق من خلال ارتكاب فعل واحد يترتب عليه وجود أكثر من جريمة ويقتضي الأمر الحكم بالعقوبة المقررة للجريمة الأشد ، ثم يصدر عفو عن الجريمة الأشد أو يلحقها عذر من الأعذار المعفية من العقاب. ويثار التساؤل عما إذا كان هذا العفو أو الإعفاء يقتصر أثره على الجريمة الأشد أم يمتد إلى الجريمة الأخف فيعفى الجاني من العقاب المقرر لها .
يُجْمِع الفقه على أنه إذا كان العفو أو الإعفاء قد لحق بالجريمة ذات العقوبة الأخف ، فإن أثره يكون قاصراً عليها ؛ لأن المشرع يعتد ـ في مجـال تطبيق نص المـادة (32) عقوبات ـ بالجريمة ذات العقوبة الأشد. أما إذا كان العفو أو الإعفاء قد لحق بالجريمة ذات العقوبة الأشد، فإن الفقه اختلف حول مدى امتداد ذلك إلى الجريمة أو الجرائم الأخف. فيذهب البعض إلى أن العفو أو الإعفاء الذي لحق بالجريمة ذات العقوبة الأشد يمتد إلى الجريمة أو الجرائم الأخف ، إذ يكون من غير الجائز مؤاخذة الجاني عن الجريمة الأخف التي تنصهر في الجريمة الأشد التي شملها الإعفاء ؛ لأن الجاني في الحالة المنصوص عليها بالفقرة الأولى من المادة (32) يرتكب جريمة واحدة هي تلك التي تمخض عنها الوصف الأشد ، أما في الحالة المنصوص عليها بالفقرة الثانية من المادة (32) عقوبات ، فإن القانون يجعل الجاني مسئولاً عن جريمة واحدة هي الجريمة ذات العقوبة الأشد [9] .
ويتجه رأي آخر إلى القول بأن لكل جريمة من الجرائم الداخلة في تكوين التعدد الحقيقي للجرائم المرتبطة ارتباطاً لا يقبل التجزئة ذاتيتها ولا تفقد كيـانها بسبب الارتباط ، وبالتالي فإن كل واحدة منها تنتج آثاراً جنائية يتعين الاعتداد بها بحيث إذا تقرر إعفاء الجاني من العقاب المقرر للجريمة الأشد ، فإن هذا العفو لا ينسحب إلى ما هو مقرر من عقاب عن الجريمة الأخف ، والقول بغير ذلك يعني أن الجاني الذي ارتكب جريمة واحدة يعد أفضل حالاً من ذلك الذي يرتكب جريمتين [10]. وكذلك الحال بالنسبة للتعدد الظاهري للجرائم ، فإذا صدر عفو أو توافر أحد الأعذار المعفية من العقاب بالنسبة للوصف الأشد ، فإن ذلك لا يؤثر في قيام مسئولية الجاني عن الوصف الأخف [11] .
أما محكمة النقض المصرية ، فلم تتخذ منهجاً محدداً في معالجة هذه المسألة ، فهي تارة تقول بأن الإعفاء من العقاب عن الجـريمة الأشد ، يترتب عليه عدم توقيع عقوبة الجريمة ذات العقوبة الأخف. وفي تبرير ذلك قالت ، بأن امتناع العقاب عن الجريمة الأشد لقيام موجب الإعفـاء منها ، يقتضي عدم توقيع العقوبة عن الجريمة الأخف المرتبطة بها ؛ لأن موانع العقاب تفترض ارتكاب الجريمة وقيام مسئولية مرتكبها عنها ، لكنه يحول دون أن ترتب المسئولية نتيجتها الطبيعية وهي توقيع العقوبة. فإذا توافر الإعفاء فإن القاضي يطبق الأثر الموضوعي المنصوص عليه بالمادة (32) عقوبات ، وهو توقـيع العقـوبة المقـررة للجـريمة الأشـد ـ الأصلية والتكميلية ـ ثم بعد ذلك يترتب أثر الإعفاء من العقاب وهو القضاء بالبراءة [12].
وتارة أخرى تقصر أثر الإعفاء من العقاب الذي يلحق الجريمة الأشد على هذه الجريمة دون أن يمتد أثره إلى الجرائم الأخف المرتبطة بها ، فقضت في حكم من أحدث أحكامها طبقت فيه القانون تطبيقاً صحيحاً بأنه : " إن مناط الارتباط في حكم المادة (32) من قانون العقوبات رهن بكون الجرائم المرتبطة قائمة لم يجر على إحداها حكم من الأحكام المعفية من المسئولية أو العقاب ؛ لأن تماسك الجريمة المرتبطة وإنضمامها بقوة الإرتباط القانوني إلى الجريمة المقرر لها أشد العقاب لا يفقدها كيانها ولا يسلب المحكمة حقها في التصدي لباقي الجرائم المرتبطة وأن تنزل العقوبة المقررة لها متى توافر أركانها وثبوتها قبل المتهم ، وكان الحكم المطعون فيه قد خلص إلى إدانة المطعون ضده الثاني بجريمتي الرشوة والإشتراك في الإختلاس وأعفاه من العقاب عن الجريمة الأولى إعمالاً لنص المادة 107 مكرراً من قانون العقوبات ولم يوقع عليه عقوبة الجريمة الثانية الأخف بدعوى ارتباطها بالجريمة الأولى ذات العقوبة الأشد ارتباطاً لا يقبل التجزئة مع أن قضائه بإعفاء المطعون ضده المذكور من العقاب عن جريمة الرشوة يمتنع معه عليه تطبيق الفقرة الثانية من المادة 32 من قانون العقوبات ويستتبع حتماً توقيع عقوبة جريمة الإشتراك في الإختلاس التي أثبت الحكم وقوعها منه ودلل عليها..." [13].
وجدير بالذكر أن هذا الحكم ليس فريداً ، فقد سبق لمحكمة النقض أن أخذت من قبل بالمبدأ الذي يقصر أثر الإعفاء من العقاب على الجريمة التي لحقها الأعفاء دون أن يمتد إلى غيرها من الجرائم
المرتبطة بها ، فقضت بأنه إذا كان المشرع يعفي من العقاب عن أحد الأوصاف فإن هذا لا يمنع من العقاب عن الوصف الآخر ، فمن تخفي الأدلة عن الجريمة المسندة إلى زوجها وهي المخدرات فإن فعلها يتضمن فضلاً عن جـريمة إخفاء الدليل المعفـاه من العقاب ، جـريمة إحراز المخدرات وهذه الأخيرة لا إعفاء فيها في هذه الحالة [14]. ويبنى على ذلك أنه ، إذا أخفت امرأة عدداً من الجناة الفارين من وجه العدالة وكان زوجها من بين هؤلاء الجناة ، فإنها بسلوك واحد تكون قد ارتكبت الجنايات والجنح المنصوص عليها بالمادة (144) عقوبات ، ففي هذه الحالة إذا تقرر إعفاء الزوجة من عقوبة الجريمة الأشد بالنسبة لإخفاء زوجها عملاً بالفقرة الأخيرة من هذه المادة ، فإن هذا الإعفاء لا يسري على غير زوجها من المجرمين الذين قامت بإخفائهم ، فتعاقب بعقوبة الجريمة التالية في الشدة لعقوبة الجريمة التي أعفيت منها.
ثم عادت مرة أخرى لتأخذ ـ دون سند من القانون ـ بإمتداد أثر الإعفاء من العقاب الذي لحق الجريمة الأشد ليشمل الجرائم الأخف المـرتبطة بها ، فقضت بأنه :" من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن الإعفاء من العقاب ليس إباحة للفعل أو محواً للمسئولية الجنائية ، بل هو مقرر لمصلحة الجاني التي تحققت في فعله وفي شخصه عناصر المسئولية الجنائية واستحقاق العقاب ، كل ما للعذر المعفي من العقاب من أثر هو حط العقوبة عن الجاني بعد إستقرار إدانته دون أن يمس ذلك قيام الجريمة في ذاتها ، وإذ كان مناط الارتباط في حكم الفقـرة الثانية من المـادة (32) من قانون العقوبات رهن بكون الجرائم المرتبطة قائمة لم يقض في إحداها بالبراءة ، وإذ كانت المحكمة قد إنتهت إلى توافر الارتباط الذي لا يقبل التجزئة بين جريمتي الرشوة ودمغ المشغولات بطريقة غير مشروعة فقد وجب اعتبارهما جريمة واحدة والحكم بالعقوبة المقررة لأشدهما وهي جريمة الرشوة ، فإذا أسفر تمحيص المحكمة لدفاع المتهم عن تحقق موجب الإعفاء في جريمة الرشوة امتنع عليها توقيع عقوبة الجريمة الأخف وهي جريمة دمغ المشغولات بطريقة غير مشروعة " [15].